سورة الأنبياء - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 21/ 87- 88].
ذو النون، أي ذو الحوت، وصاحبه يونس بن متّى عليه السلام، التقمه الحوت على الحالة المعروفة، وهو نبي من أهل نينوى، وهو الذي قال فيه الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم- فيما أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «من قال: أنا خير من يونس بن متّى، فقد كذب».
وفي حديث آخر لدى البخاري ومسلم وأبي داود وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى».
ومعنى الآيات: واذكر أيها الرسول محمد قصة يونس بن متى ذي النون: أي صاحب الحوت، حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى بأرض الموصل، فدعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته، فأبوا، وعاندوه، وتمادوا في كفرهم، فخرج من بينهم غضبان، وتوعدهم بالعذاب بعد ثلاث ليال.
فلما تحقق القوم منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء، وتضرعوا إلى الله عز وجل، فرفع الله عنهم العذاب، كما جاء في آية أخرى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)} [يونس: 10/ 98].
وأما يونس عليه السلام، فإنه ذهب، وركب في سفينة، فاضطربت بهم، وخافوا الغرق، فأجروا قرعة بينهم لتخفيف الحمولة، فوقعت القرعة على يونس، في المرات الثلاث، كما قال تعالى: {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 37/ 141]. فألقوا يونس في البحر، فالتقمه على الفور حوت كبير.
لقد ذهب يونس تاركا قومه، وظانا أن لن يضيّق الله عليه في بطن الحوت، وأن لن يقضي الله عليه بالعقوبة، فنادى من خلال الظلمات الثلاث الكثيفة: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل: {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي تنزيها لك يا رب، أنزهك عن كل نقص وعيب، أنت الإله وحدك لا شريك لك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، إني كنت من الظالمين نفسي، بالخروج دون إذن منك. وهذا تصرف يعدّ خلاف الأولى من الأنبياء.
فأجاب الله دعاءه الذي أظهر به الندم والتوبة، ونجاه الله وأخرجه من بطن الحوت وتلك الظلمات، وكما أنجاه الله من الكرب والشدة المطبقة، ينجّي الله أيضا كل المؤمنين الصادقين إذا استغاثوا بربهم، وطلبوا إنزال الرحمة الإلهية عليهم.
روى البيهقي وغيره عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له».
الحق أن العبد إذا صدق في مناجاة ربه بخشوع وخضوع، وأدب وإخلاص، صدق الله معه، ونجاه من الكروب العظام في الدنيا والآخرة.
قصة زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام:
لقد جمع الله تعالى بين زكريا ومريم على الخير والعبادة، حينما كان يتردد عليها في المحراب، ويجد عندها الأرزاق الوفيرة والغريبة، وفي إطار هذا التلاقي، أحب زكريا عليه السلام أن يخلفه من بعده خلف صالح، يقوم بأعباء النبوة والدعوة إلى الله تعالى، وأراد الله سبحانه أن تنجب السيدة مريم البتول، العذراء الصالحة ولدا مقدسا، تظهر على أيديه سحائب الخير، ودعوة الناس إلى الاستقامة، وتم مراد الله، فدعا زكريا ربه أن يرثه وارث صالح، فتحقق ذلك بإنجاب يحيى الحصور عليه السلام، وأنجبت مريم ابنها عيسى عليه السلام، للقيام بالدعوة إلى توحيد الله والحق والخير، قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث الغريبة:


{وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)} [الأنبياء: 21/ 89- 91].
في موكب الأنبياء العظماء اذكر أيها الرسول النبي لقومك خبر زكريا عليه السلام، حين نادى ربه نداء خفيا، وطلب أن يهبه الله ولدا، يكون من بعده نبيا، لحمل رسالة النبوة والخير والإصلاح، وقال: رب لا تتركني وحيدا، لا عقب لي ولا ولد، ولا وارث يقوم من بعدي في دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، وأنت يا رب الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي، فإنك خير وارث، وسيقوم بحمل عبء الرسالة من عبادك من تختاره وترتضيه، وأنت حسبي ونعم الوكيل.
فأجاب الله دعاءه، ولبى نداءه ومطلبه، ووهبه ولدا صالحا اسمه يحيى، وأصلح له امرأته بكل وجوه الإصلاح، وفيها إزالة كل موانع الحمل والولادة، فحاضت وحملت وولدت بعد أن كانت عاقرا لا تلد، وكبيرة السن لا يتوقع عادة وجود الحمل والولادة منها.
إن هذه الكوكبة النيرة من الأنبياء المذكورين في سورة الأنبياء عليهم السلام، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى الخيرات، والقيام بالطاعات، والتقرب إلى الله بالقربات، وعمل الصالحات. وكانوا أيضا يدعون ربهم رغبا ورهبا، أي رغبة في رحمة الله وفضله، وخوفا من عذابه وعقابه، في الرخاء والشدة، وكانوا متواضعين متذللين متضرعين، والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين:
الأول- الفزع إلى الله تعالى، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.
والثاني- الخشوع والإنابة: وذلك هو المخافة الثابتة في القلب. فهم في وقت تعبدهم كانوا بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف في حال واحدة لأن الرغبة والرهبة متلازمتان، والرغب لتحقيق المطلوب، والرهب لدفع المضرة.
ثم قرن الله تعالى بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام قصة مريم وابنها عيسى عليه السلام، لارتباطهما بشيء مشترك، فإن إنجاب زكريا من امرأة عاقر في سن الكبر، أعجب منه إنجاب مريم العذراء ولدا من أنثى بلا أب، فاذكر أيها الرسول خبر مريم بنت عمران التي حصّنت نفسها من الرجال، وخصصت نفسها للعبادة، فنفخ جبريل الروح الأمين في بطنها، أي أحيا ولدا في جوفها، وهو عيسى عليه السلام، وجعل الله أمر مريم وابنها عيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة وعبرة لمن اعتبر في ذلك، من العالمين. أي لمن عاصر الحادث فما بعد ذلك، وذلك دليل على قدرة الله الباهرة، فهو سبحانه على كل شيء قدير، وإن ذكر مريم هنا وإن لم تكن من الأنبياء فلأجل عيسى ابنها النبي الرسول عليه السلام.
وحدة الأديان السماوية:
أرسل الله تعالى الرسل، وأنزل الكتب، لتحقيق مضمون واحد، والوصول إلى مصير واحد، أما وحدة المضمون: فهي الدعوة إلى توحيد الله وعبادته، والعمل بمرضاته، والبعد عن مساخطه، وأما وحدة المصير: فهي عرض جميع الخلائق على ربهم في عالم الآخرة، مما يقتضيهم التزام أمر الله، واجتناب نهيه، فتحقق لهم السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، ولا داعي بعدئذ للتفرق والاختلاف في الدين، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى:


{إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)} [الأنبياء: 21/ 92- 97].
المعنى: إن دين الله والإنسانية دين واحد، قائم على ملة التوحيد الخالص لله، والإيمان بالله تبارك وتعالى وعبادته، وتلك هي الملة الواحدة التي دعا إليها جميع الأنبياء والشرائع، إنهم جميعا متفقون على منهج واحد، وغاية واحدة، وما على البشر إلا توحيد الدين، والإنابة لرب العالمين، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، فليعبده كل الناس، ولا يشركوا به أحدا من المخلوقات والأشياء الكونية.
إلا أن الأمم والشعوب اختلفوا مع الأسف، على الرسل بين مصدّق لهم ومكذب، وكان منهم المحسن ومنهم المسيء، وتقطّعوا أمر الدين الواحد، وتفرقوا فرقا شتى، وكل فرقة منهم سيرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة، فيجازى كل واحد بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ثم حوّل الله الخطاب إلى الغيبة للالتفات إلى مخالفات دين الله الواحد.
فمن عمل عملا من الصالحات، وهو مؤمن بالله، فهو بسعيه يجازى، ولا جحود لمسعاه، ولا إبطال لثواب عمله، ولا إضاعة لجزائه، وكل شيء قدمه فهو مدون محفوظ. والآية دليل واضح على أن أساس قبول الأعمال الصالحة عند الله: هو الإيمان الحق الذي يشمل التصديق بالله ورسله وبجميع ما أنزل الله في كتبه، وبما شرّع من شرائع وأحكام، وهذا هو المحسن، وقد ذكّره الله بالوعد الحسن وبالمصير المحمود.
ثم ذكّر الله المسيء بالوعيد في قوله: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} أي ومحظور ممنوع على أهل قرية، حكم الله بإهلاكها، رجوعهم إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، أو رجوعهم عن الكفر إلى الإيمان والإسلام، والعودة إلى الرشد والاستقامة، فأولئك لا يؤمنون أبدا بسبب سوء اختيارهم وعنادهم، وتحجر طبائعهم.
وكلمة «لا» في قوله سبحانه: {لا يَرْجِعُونَ} زائدة للتأكيد، وهو شيء مألوف في لغة العرب.
ويستمر عدم رجوع القوم المهلكين إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو خروج يأجوج ومأجوج، وهم الناس جميعا، يخرجون من قبورهم، ويقبلون على ساحة الحساب من كل مكان، مسرعين، فقوله تعالى: {يَنْسِلُونَ} معناه: يسرعون في تطامن، أي سكون أو انخفاض. والحدب: كل مسنّم من الأرض كالجبل والقبر ونحوه.
فإذا خرجت الأمم من القبور، وقرب الوعد الحق، أي يوم القيامة، ترى أبصار الكافرين شاخصة، أي مرتفعة الأجفان، جامدة لا تتحرك، ولا تكاد تنظر من أهوال القيامة وشدة أحداثها. يقولون: «يا ويلنا» أي يا هلاكنا، قد كنا في الدنيا غافلين لاهين. بل كنا في الواقع ظالمين لأنفسنا، بتعريضها للعذاب، لقد كانت بنا غفلة عما وجدنا عليه الآن، وتبيّنا من الحقائق، ونصرح بأننا نحن الظلمة. وهذا اعتراف واضح بما كانوا عليه من تعمّد الكفر وقصد الإعراض.
إن أمر الساعة الوعد الحق سريع الحدوث، رهيب الوقوع، روى ابن جرير الطبري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: «رجلا اقتنى فلوا، بعد خروج يأجوج ومأجوج، لم يركبه حتى تقوم الساعة».
والفلو: المهر أو الجحش يفطم أو يبلغ السنة.
جزاء الكافرين والمؤمنين:
من المعلوم بداهة أن الجزاء من جنس العمل، وأن النجاح والرسوب بحسب الاستعداد للامتحان، فمن أحسن العمل، وأتقن الصنعة، وآمن إيمانا صحيحا، لقي الرضوان، وفاز بالجنان، ونجح في الامتحان. ومن أساء العمل، وأفسد المسعى، وكفر بالله وخالقه ورازقه، تلقى الهوان والسخط والغضب، وباء بالنيران، وخاب في النتيجة. وهذا منهج القرآن وكل كتاب إلهي، وهو حكم العقل الصحيح، قال الله تعالى مبينا هذا المنهاج:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8